الخميس، 23 يوليو 2009

كل ما أذكره أنى أحببتها وأنها قالت إنها تحبنى . أقصد لابد أنها أحبتنى فعلا فى وقت ما ، والا فلم تزوجنا؟.. كنت أفقر واحد بين المحررين الذين تمنوا الزواج منها لما جاءت لتعمل معنا فى الصحيفة . أسرتنى مثل الجميع بوجهها البشوش بابتسامتها الدائمة وطريقتها الصريحة فى الكلام معى تحدق مباشرة فى عينى من تحدثه . أسرتنى أكثر من غيري واعتدت أن أبذل جهدا كبيرا لكى أكلمها بطريقة عادية مثما أكلم بقية المحررات . أحرص دائما أن أحول نظرى فى اتجاه غير الذى تجلس فيه فى صالة التحرير الواسعة .وكانت هى التى بدأت تقطع المسافة من مكتبها إلى مكتبى لكى تستشيرنى كزميل أقدم فى موضوع تكتبه أو لكى ألقى نظرة على الموضوع قبل أن تقدمه للمطبعة . ثم بدأت تحدثنى عن مشاكلها فى البيت : يلحون عليها أن تتزوج ويعرضونها على الخطاب كما لو كانت سلعة ، لن تتزوج هى أبدا بهذه الطريقة ، ستختار بنفسها .لماذا يكون الاختيار من حق الرجل وحده ؟.. أخافنى كلامها . قلت لنفسى لن تكون صريحة معى إلى هذا الحد لو كنت أنا الذى اختارته . ولكنى حاولت وتقدمت . وقالت لى وهى تضحك ونحن نمشى بيدين متشابكتين فى طريق الكورنيش : ماما قالت ألم تجدى غير هذا الصحفى المفلس ؟ تتركين من أجله الضابط والدكتور ! .. وأدهشتنى منار حين قالت بفخر وهى تضغط على يدى معنى هذا أن ماما تحبك وأنها توافق عليك ! .قبل وقت طويل أدركت أن ماما هى الأهم . كانت تشعر بنوع من العار فى حضور أبيها الذى أحببته أنا من أول لحظة لبساطته وطيبته . ولكن منار كانت تخجل حين يجلس معنا ونحن مخطوبان في غرفة الجلوس بالبيجاما أو بالجلباب ويتحدث بفخر عن إشادة رئيسه فى العمل بالأسلوب الذى كتب به المذكرة اليوم ، أو حين يحكى كيف اشترى بطيخة وهو عائد من المكتب بعد أن أقسم له البائع أنها (( شيليان )) ولكن عندما فتحها فى البيت وجدها بيضاء من غير سوء فنزل من فوره وردها إلى البائع الكذاب ، لأنه لا يترك حقه ولا يسمح لأحد بأن يضحك عليه . كان وجه منار يتضرج عندما يحكى هذه القصص وألاحظ نظرة التأنيب فى عينى أمها دون كلام . ولكن بعد أن تزوجنا لم تكن أمها تبالى بأن تعنفه أمامى . و كانت منار تبكى بالدموع لأنه اعتاد بعد خروجه إلى المعاش أن ينزل إلى الشارع بالجلباب وأن يجلس بالساعات عند الحلاق أو عند البقال أو على دكة البواب . تقول وسط دموعها حرام عليك يا بابا . . سمعتنا يا بابا .. فيعدها وهو يعتذر محرجا ومرتبكا أنه لن يفعل ذلك مرة أخرى.ولكنه عندما مات فاق حزن منار عليه كل تصور . ظلت تبكيه شهورا طويلة وتناجيه طوال الوقت كأنه جالس بيننا تسأله كيف حاله هناك ؟ لماذا تركها ألا يشتاق إليها ؟ وكنت أسأل نفسى إن لم يكن هناك إلى جانب الحزن نوع من تأنيب الضمير ، وأكد ما جاء بعد ذلك ما كنت أشك فيه . بالتدريج بدأت تتحدث عن أبيها على أنه كان موظفا كبيرا قوي الشخصية يهابه الجميع فى المكتب بسبب حزمه وشدته فى الحق ، رغم أنه لم يكن يؤذى أحدا وأخذت هى نفسها مع مرور السنين تقتنع بذلك ، تطالبنى فى بعض الأحيان أن أكون حازما مثل أبيها .وحين أبعدونى عن العمل ولم يعد هناك الكثير مما يشغلنى ، انتبهت فى أول مرة أطلت فيها جلستى عند الحلاق بعد أن انتهى من قص شعري وأخذت أتبادل معه الثرثرة دون هدف . شعرت بالخوف وعدت مسرعا إلى البيت ثم جلست إلى المكتب لأخطط مشروع كتابى . وكانت منار قد بدأت تأخذ صورة أمها بالتدريج .تتهمنى مثلا أننى أدلل الطفلين ومع ذلك تشعر بالغضب إذا ما حاولت أن أعاقب أحدهما وتتصدى للدفاع عنه . ظل العقاب حقا مقصورا عليها و يأتى عادة بعد أن نخرج للنزهة فى يوم الجمعة . اعتادت أن تكتشف باستمرار خطأ ارتكبه أحدهما أو ارتكباه معا : نوع من قلة الأدب كما كانت تقول ، عقابه أن تحرمهما من المصروف أو من زيارة الأصدقاء والأقارب . وحين كانت ترانى ألعب الشطرنج مع خالد تتهمنى بأنى أعطله عن الدراسة ، واذا حملت هنادى وأخذت ألف بها.هى تضحك تقول : إن هذه اللعبة هى السبب فى أن بطنها كان يوجعها فى الأسبوع الماضى . ولما لاحظت أن خالد يحب الشعر وأنى أشجعه على القراءة ، قالت لا داعى لأن يخيب الولد و هو نابغ فى الرياضة ، ولما . لا ، كفى ! مرة أخرى انتبه وتوقف . إلى أين تريد أن تصل من ذلك . أنها سيطرت على الطفلين ؟.. ليكن !.. وأين كنت أنت .. لماذا لم تفعل شيئا لتقترب منهما أكثر ؟.. ألم تكن طول الوقت خارج البيت فى الصحيفة أوفى الاتحاد الاشتراكى أو خارج البلد ؟.. على أى شىء تلومها هنا بالضبط ؟.، ثم ما حكاية الحلاق هذه ؟.. ما علاقتها بالمسألة كلها .. كنت أبحث عن السبب . عن بذرة الخطأ . خطئى أنا أو خطؤها هى لكن ما علاقة هذه الأشياء بالمسألة ..فاجأنى وجهى فى مرأة السيارة متجهما وشاردا فأجفلت . قلت لا . لن أعود إلى ذلك . ليس فى هذا المكان الجميل ولا فى هذا الصباح المشمس . لن أستسلم اليوم لذلك الشرود الذى يطفو فيه مشهد مع منار من أى شىء أراه أو طفو دون سبب ثم يسلم كل مشهد إلى أخر وتمر الساعات على هذا الحال . لا ليس اليوم . إن لم تفلح السكينة فى هذه الغابة أن تنقذنى من ذلك ، فسيكون أى شيء أخر أفضل من البقاء هنا . وأدرت محرك السيارة
من رواية ( الحب فى المنفى ) بهاء طاهر

7 تعليقات:

في الأحد, يوليو 26, 2009 , Blogger Mafrousa يقول...

حلوه اوي يا سنوهي
جميل انك تشاركنا بعض قراءاتك
حمدا لله على سلامتك فى وسطينا

 
في الاثنين, يوليو 27, 2009 , Blogger snohe يقول...

صديقتى العزيزة مفروسه
والله بفرح لما بشوف تعليقك عندى فى مدونتى
يارب تكونى بخير

الجو عندى فى الرياض حار جدا جدا
اول صيف اقضيه خارج مصر

ادعولى ربنا يوفقنى

تحياتى

 
في الأربعاء, أغسطس 05, 2009 , Anonymous غير معرف يقول...

ربنا يسهلك وشكرا

 
في الأربعاء, أغسطس 05, 2009 , Anonymous غير معرف يقول...

رمضان كريم

 
في الأربعاء, أغسطس 05, 2009 , Blogger snohe يقول...

كل عام والجميع بخير
وربنا يوفق الجميع


تحياتى

 
في الخميس, أغسطس 13, 2009 , Blogger فاتيما يقول...

متفقة مع فروسة فى كل جزئية ف تعليقها
إختياراتك بتسعدنا جدا
و وجودك كمان
و خالص ودى ليكى يا سنوهى
و آت من عالم بعيد

 
في الخميس, أغسطس 13, 2009 , Blogger snohe يقول...

فاتيما
------
كل سنه وانتى سعيده وطيبه
ويارب تظلى منوره هالم التدوين

وشكرا ليكى يا فاتيما انتى ومفروسه هانم
تحياتى

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية